ليالينا ... بقلم الكاتبة المبدعة الأستاذة/ عفاف علي


 ليالينا


منذ شهر كنتُ أسيرُ في شارع الذكريات؛ شاهدتها تجلس في مكانها المفضل.

الذي تقابلني فيه كل فترة، فتعيد على أذني نفس الحوار؛ لكن هذه المرة مختلفة؛ فالصمت أصبح لها عنوان.

- وجدتها في فصل الصيف؛ كانت طفلة جميلة في الحادية عشر من عمرها؛ ترتدي زي المدرسة، وشعرها مجعد على خدها، تجلس بمفردها، تتطلع على جدران الفصل في ذهول.

اقتربت منها ببطء، وربت على كتفها بحنو الأمومة المعذبة. 

- قلت: مابكِ ياصغيرتي؟

- أجابتني: أمي مريضة، أحاول أن أساعدها ولا أستطيع.

سكنت كل حروف اللغة أمامي، وتمخضت شفتي بكلمة واحدة ( ستعتادين علي الأمر حبيبتي ). 

ومر الصيف؛ وهربت الأعوام والأيام، واستمرت الحياة.

تبخرت مياه الدموع؛ مكونة سحب الحياة؛ لتهطل أمطار الصعاب على قلوبنا الخضراء.

فقابلتها في فصل الشتاء؛ كانت مختلفة شعلة من الحماس،

يملؤها الأمل والتفاؤل.

- سألتها: كيف حالك غاليتي؟

- أجابتني: مازالت أمي مريضة؛ لكنني تعلمت كيف أعيش و أساعدها، ( لقد أعتدت على الأمر ).

هززت رأسي مشجعة براءة بسمتها، وظلّها الخفيف.

وأمطرت السماء؛ فشربت الأرض، ونبتت البذور، واخضرت الصحراء، واينعت الأزهار، وماجت الورود بالألوان.

فخرجت في فصل الربيع أتطلع في صنع الله، أشكره على الشمس والهواء.

فقابلتها عروسًا جميلة؛ لديها بريق مذهل، شامخة كنخلة تحمل رطبًا تشتاقه الشفاه.

جلست بجوارها، وتطلعت لحسنها ولذكائها.

- قلت: كيف أصبحت عروستنا؟

- قالت: مازالت أمي مريضة؛ لكنها أجمل ما تملك يدي، وأصبحت أحلم بأسرتي الصغيرة، و مملكتي الخاصة.

هبت نسمة هواء عليلة، جعلت أوراق الشجر ترتجف، كأن جذورها لا تستطيع أن تحملها.

الفراشات تهرب مسرعة؛ فالعاصفة والرياح؛ تسلخ الأشجار من ثمارها؛ وتعذب أوراقها.

جاء الخريف مسرعًا؛ يحمل داخل قلبه؛ حقده الدفين للربيع. فسجن الفراشات، ويتم العصافير، وشرد الأحلام.

لقد وجدتني هي؛ ووقفت أمامي؛ ثيابها باهته؛ عبق عطرها قديم؛ على ملامحها أحزان وبقايا أحلام؛ ضمتني لصدرها.

- قالت: كيف حالك الآن مرآتي؟

- أجبتها: لقد ماتت أمي؛ وهربت كل أحلامي؛ وأسمع كل يوم صدى صوتك يردد في أذني: ( ستعتادين حبيبتي؛ فكل مر سيمر ).

- هزت رأسها ببؤس؛ وقالت: قصدت أن المر يمر؛ ويأخذ معه أجمل أيام العمر.

فهربت مسرعة نحو الباب، أبحث عن باقي العمر.


عفاف علي

Comments

Popular posts from this blog

بسمة … بقلم الكاتب المبدع الأستاذ/ زهير دوفش سعيد

حوار الدكتورة منال الحسبان مع الأستاذ الإعلامي فيصل بن إبراهيم التميمي

وجع الأوطان ... بقلم الكاتبة المبدعة الأستاذة / وهيبة الكساسبة