مرايا ... بقلم الكاتب المبدع الأستاذ/ مؤمن أبوأسماء
مرايا
في سفرها الدائم،، تغادر مدينتها العارية رفقة جماعة من صويحباتها،، بحثا عن مأوى يجمع شتات الغياب،، ودون توقف على الدروب الموحشة علامات،، ترشد السالكين،، مكتوب عليها وصايا بخط مضغوط بارز..
لاتكاد الجماعة تدلف دربا ،،حتى تتراءى لها من بعيد،، بقايا قبور مكتظة..
المغامرون والسابقون يسيطرعليهم الخوف،، ويتعالى الصياح،، وتعلو الجلبة الساحة،، يلتفت بعضهم إلى بعض والصمت يلفهم،، لايتكلمون إلا لغة الإشارة ،،فمدرك يقتحم،، وغافل ينتكس،، ومهرول لايلوي على شيء..
بعد قطع المسافة المظلمة،، لايلتحق بسفينة الركب إلا القلة الباقية..
وينطلق السفر..الكل يبحث عن نفسه ..الكل يراهن على الضفة الأخرى ..
تبدو الحياة عرجاء ،،ولايرى أهلها إلا بعين غارقة في وحل قذاها..
وعلى جنبات الطرق،، مرايا تلهب الشعور ،،وتبعث الدفء في الصور الموات..
هناك قرت عيون الناجين،، والتمس كل منهم مصيره،، وتعرف من هو.. هناك رأى كل منهم حقيقته ،، هناك انكشف المستور،، وتكسرت المرايا...
تعجل في التستر ،كان يراهن على سرعة يقظته في القبض المحكم على نافذة ذاته السليبة،،يقلبها فتحا وشدا،،بينما
ضمير أناه يعبث بمحتويات الذاكرة ،يعبد طريقا ،ويملأ آخر بعوالق ومزالق..
كان في الضفة المجاورة ،نداء استغاثة،، يبث شكواه :
أيها السائر في درب الحياة ! أنت فقط،، تزاحم نفسك ،
ولن تظفر منها إلا بقدر ما تمنحها ..
في أي طريق تذهب لن تجد إلا قدرك ،وهو صورة من نفسك لنفسك .!
قف قليلا معك،،لعلك تفهم عنك!.
يقف مستروحا يلتفت يمنة ويسرة..يتحسس يدا تمتد إليه..
يعاود الكرة ..يحاول الوصول..على امتداد الطريق بقايا أمل..
يتجدد النداء بداخله..يطرق منصتا ويقهقه:
أيها المسافر..مجرد استغاثة إن كنت ملبيا!
لست أدري ماالذي يشدني إليه،، كلما رمقته عيناي شعرت برغبة الاقتراب،، وتدفقت بداخلي كوامن السؤال عن شيء يحملني إليه ،،ماذا يمكن أن يكون عنده حتى يبش قلبي إليه،، وتعتريني لحظة حضور زائد،، كأنني على وصال بطبيب أنشده دوائي،، يمسح دمعاتي اليتيمة،، ويسكت بلابل غربتي!
كانت ليلة شاتية،، حين أبصرته يغادر الحارة دون غيره من الناس الذين تسارعوا إلى منازلهم،، خوفا من مطر يتزايد صبيبه..
توقدت بداخلي الأسئلة ذاتها،، فمالبثت أن أسرعت متتبعا خطواته،، لم يمضي بعيدا،، هاهو يخترق طريق المحطة متجها إلى مراقد الموتى!!.
دلفت خلفه وأذناي تسترقان السمع،؛ كان يردد منتحبا:
ماأعقل من تعقل بمن سبق،، ياليث شعري كيف لي أن أروي شغفي بجذبة تسكنني..؟؟
حتى إذا انتهى إلى حيث يريد،، باغته بالسلام،، فرد علي وهو يقول : غريب كان،،فأمسى غربان!!
فسألته عن مراده،، فشد على يدي ثم قال:
كنت وحدي أزور العقلاء،، واليوم أنت معي..
حركت رأسي معلنا موافقتي،،ثم أردفت قائلا:
سمعتك تردد:
كيف لي أن أروي شغفي بجذبة تسكنني؟؟؟..
نظر إلي باكيا،، وأعاد الجملة ذاتها وزاد:
نعم ياولدي،، إنها جذبة التفتيش عن أسرار تسكننا،،
فهل ترى ذلك ينتهي؟؟
كبر بعيني،، وازددت به تعلقا،، وناشدته الله الصحبة..
فلازالت أيامنا تخضر،، وبالوفاء تزهر،،..
تصاحبنا على الحكمة،، ولأسرارها سعينا،،حتى غيبه المنون،،
فارقني حقا،، وغاب إلى دار البقاء ،،لكن بقي صوته يسكنني ..
وعهدا قطعناه،، سنلتقى بدار الخلود!!
وكتبت رسالتي إلي..
كم هو جميل أن تشهد ميلاد القمر بدرا،،
وفي السماء نجوم تحوم كالطيور الصافقات،،
والليل ينتعش ببسمة نور تضيء وجهه الحالك،،
وبالغرفة ضوء مصباح خافت يؤذن بالرحيل،،
فيخيل إليك أنك تعيش الميلاد والوفاة في وقت واحد،،
تستجيب عيناي شوقا بدموع غائرة،،
كأنني في سلوة وعزاء..لنفسي طبعا!.
في رسالتي إلي..
غلبتني مواجعي عن طعم الهدوء..
خفت السفر قبل البوح..
وقعت مختارا قابلية الاختلاء..
راسلتني طبيعتي الأولى:
ليتك توسدت صمتك زمن الضجيج..!
ليتك عاينت شوقك حين خاب الظن في صحبة الغثاء..!
ليتك سمعت نداء الضمير وسط ريح العجب المستتر..!
عدت إلي فقيرا،، أصغي محتبيا،، فإذا بي أسمع صوتا من داخلي يناديني:
ياهذا خذ منك لك..
وتطلع بشوقك إلى عتقك..
وتوسل به لنيل جميل رفعتك..
ولاتكن من الغافلين..؟؟!!
كنت على وجل،،
فوطنت نفسي،،حتى إذا طوى الليل النهار..
توالت بين يدي أيامي،، محمولة بكفن الغروب..
شاهدت شمس أمتي،، تغالب سفور ظلامها،
فطابت نفسي وأنا أعالج الأفول.
تحدثت إلي:
تبدو متفائلا رغم السواد الجاري بدماء الفناء؟
نظرت إلي بعين الألم باكيا بلا بكاء،، تستغرقني غصص أمتي،، وبالفؤاد بصيرة،، أنشد بها شدي إلي،،
متوقعا كل جميل وأنا أردد:
ياأنا!!
علمتنا السنة الماضية،،أن الليل البهيم،، يلد للحياة فجرا جديدا..
تمتمت،، ثم استرسلت بنبرة خجلى..
طال زمن السكتة،، وأخشى أن تنتهي بفراق الحياة..
ثم استدركت علي..
أمة أخرجت للناس،، يراد لها قدرا أن تقود!!
صدقني قد يطول نومها،،قد يزداد مرضها،،لكن أبدا لن تموت..
مومن أبو أسماء..
...
..
.

Comments
Post a Comment